فى أفلام الأوسكار هذا العام إلحاحٌ على فكرة الهوية. فى بداية مشوارِه، نرى أن «فريدى مركيرى»- الذى يروى قصته فيلم «بوهيميان رابسودى»- يُنبِّه والدَه أنه اختار لنفسه اسم «فريدى»، وليس فاروق. أبوه جاء مهاجراً من باكستان، وهو نشأ فى بريطانيا ليُصبح من أشهر مغنى العالم. عاش «مركيرى» حياته بالصورة التى يرغب. بكلامٍ آخر، هو اختار هويته بمعزلٍ عن أصله. اشتُهر «ميركرى» كذلك بمثليتِه الجنسية التى لم يكن يخفيها. فى كلمته لدى تسلمه الأوسكار قال رامى مالك: «لقد صنعنا فيلماً عن رجلٍ مثلى الجنس، مهاجر، عاش غير آسف أو معتذر عن طريقة حياته».
أما فى فيلم Green Book «الكتاب الأخضر»، وهو الفائز بالأوسكار هذا العام، فنرى تناولاً أكثر إدهاشاً وإمتاعاً لموضوع الهوية. فى الستينيات فى الولايات المتحدة وحركة الحقوق المدنية فى عنفوانها، بينما جيوب التفرقة العنصرية مازالت ضاربةً أطنابها فى المجتمع، خاصة فى الجنوب، نتابع وقائع هذه الرحلة العجيبة: رجل أسود تمرد على هويتِه كملون بالإمعان فى التفوق والتميز. صار من أشهر عازفى البيانو الذين يُشار إليهم بالبنان فى حلقات الثقافة والفن الأمريكى. هو يصطحب سائقاً أبيض من أصل إيطالى، بسيط التفكير، على سجيتِه، لا يخلو من عنصرية، ولكن وعيه الإنسانى غنى وبديهته حاضرة.. يصطحبه فى جولة فنية يقوم بها العازف الشهير فى عُمق الجنوب الأمريكى العنصرى. يتجول الموسيقار المنمق فى صالات العرض الكبرى والبيوتات الأرستقراطية التى يعترف أصحابها بفنِه الراقى، بينما لا يجدون غضاضة فى منعِه من استخدام دورة المياه الخاصة بالبيض وحدهم دون الملونين!
فى هذا الموقف المعقد (الأبيض يعمل سائقاً لدى الأسود) تتولد الكثير من المفارقات. نكتشف بالتدريج أن المثالية المُتعالية للعازف الأسود تُخفى صراعاً داخلياً مريراً، ليس فقط مع لونِه بل مع ميوله الجنسية المثلية(!). نراه فى ذروة ِالأحداث يصرخ صرخةَ طيرٍ مذبوح: «من أكون؟». الحوار بين رفيقى الرحلة العجيبة ليس فى اتجاهٍ واحد كما قد يتوقع المشاهد. الاثنان لديهما ما يتعلمانه من بعضهما البعض. الاثنان يكملان بعضهما البعض على نحوٍ ما.
الهوية عنصرٌ حاكم فى السياسة والثقافةِ فى عالم اليوم. العولمة دفعت فى اتجاهين متناقضين: الأول هو تنميط البشر من حيث طريقة حياتِهم واهتماماتهم، والثانى هو احتضانهم الزائد لهوياتهم الذاتية وثقافاتهم فى مواجهة الآخرين. الناظر لأحوال العالم اليوم يلمس تجلياتٍ مختلفة لهذين الملمحين المتناقضين. صعود اليمين الشعبوى المعادى للمهاجرين فى أوروبا، وصعود ترامب فى أمريكا، وصعود القومية الهندوسية فى الهند.. كلها تجلياتٌ لهذه الحالة. فى المقابل، نجد أن عدداً متزايداً من الدول صار يُقِّر بزواجِ المثليين، وهناك تصاعدٌ ملفتٌ لمقاومة النساء لظاهرة التحرش الجنسى عبّرَّ عنها الوسم الشهير «أنا أيضاً». وتلك أيضاً من مظاهر الاستمساك بالهوية فى صورتها الجنسية.
المشكلة فى صراعات الهوية أنها صفرية بطبيعتها. أى أرضٍ يكسبها طرف تُعَدُ خصماً من شعور الأطراف الأخرى بالتحقق والاعتراف، بل وبالأمان النفسى. من هنا نفهم سعى الجماعات إلى الإمعان فى الحصول على اعتراف المجتمع بطريقة حياتهم وثقافتهم وملبسهم، واعتبار أى انتقاد يُوجّه إليهم نوعاً من الإهانة بل والتهديد الوجودى. وهى حالةٌ تؤدى بدورِها، وإن تمت المبالغة فيها، إلى إذكاء هويّات مقابلة، وهكذا دواليك. المثل الأبرز هنا هو صعود اليمين الأوروبى كرد فعلٍ على «الحالة الإسلامية» داخل أوروبا.
والحال أن «التجربة الإنسانية» صارت من التعدد والتنوع فى زماننا بحيث يصعبُ حدها بحد أو وضعها فى قوالب. الأهم أن الناس صاروا يعرفون أكثر عن طريقة معيشة بعضهم البعض. ليس مطلوباً بالطبع أن نؤمن بما يؤمن به الآخرون. ليس مفروضاً أن نتطلع إلى العيش مثلهم. مطلوبٌ، مع ذلك، أن نعرفَ صوراً مختلفة من التجارب الإنسانية. أن نكون على وعى بأن طريقة حياتنا هى مجرد اختيار بين اختيارات متعددة. أننا لا نعيش «الحقيقة الوحيدة المطلقة»، بل نحن مجرد حالة ضمن حالات، وتجربة بين تجارب.
وتبقى السينما نافذة رئيسية للإطلال على التجربة الإنسانية فى تنوعها وغناها اللامحدود. قد تكون هى المدرسة الأولى لتعليم التسامح فى عصرِنا. نعايش فى السينما تجارب استثنائية قد لا تتوفر لنا فُرصة الاقتراب منها فى الحياة العادية. التفاعل مع هذه التجارب، ولو لساعتين فقط، يُثرى وعينا الإنسانى العام. يُقربنا من بشر آخرين، بقيم مختلفة، وطرائق حياة أبعد ما تكون عن حياتنا.
السينما هى الدواء الحقيقى للتطرف.
by via الفجر الفني
Enregistrer un commentaire